الأربعاء، 29 يوليو 2009

ما هي الفائدة من طفل حديث الولادة ؟

ما هي الفائدة من طفل حديث الولادة ؟

د . خضر محمد الشيباني

لن نخوض عباب التأويلات النفسية والعمليات الكيماوية والتفاعلات البيئية والمؤثرات الوراثية وغيرها من تفسيرات قد تكون في مجموعها مسؤولة عن ولادة ( الفكرة ) في عقل الإنسان ؛ فالأفكار قد تنبلج فجأة أو قد تولد في مخاض عصيب ،وهي تغدو وتروح ، وتترسب وتتبخر ، وتعلق وتتحرر ، وتتألق وتندثر ، ولكنها – في نهاية المطاف – مسؤولة عن ما يحققه البشر من إخفاق أو إنجاز ،وهي التي تحدد ما يتفاخرون به من تقدم أو ما ينعونه من تخلف ، بل هي مسؤولة – في المقام الأول – عن تحقيق تلك المهمة التي ميزت الإنسان عن غيره من المخلوقات في دور

( الاستخلاف في الأرض ) وما يترتب على ذلك من طيف واسع في تجليات التدافع البشري وطيات التفاعل الإنساني.

أما حال ( الفكرة ) فهو تمامًا مماثل لتلك الإجابة الرائعة التي تصدى بها أحد أبرز العقول الفيزيائية لسؤال طرحته عليه سيدة من العوام ، فقد كان الفيزيائي البريطاني " مايكل فاراداي " ، إضافة إلى إنجازاته العملاقة في مجال الفيزياء حريصًا على بث ( الثقافة العلمية ) في المجتمع ، فكانت جهوده دؤوبة عبر محاضراته العامة ونقاشاته المستمرة حول تبسيط علمه وتعميق جذور ( الحركة العلمية ) في المجتمع ، وفي إحدى محاضراته العامة التي كان يتحدث فيها عن أحد إنجازاته ، وهو توليد الكهرباء بواسطة المغناطيسية ، سألته سيدة : ( ولكن ما الفائدة من هذا ؟ ) وأجاب في سرعة بديهة وعمق رؤية : ( سيدتي ، وما هي الفائدة من طفل حديث الولادة ؟ ) .

من أبرز دلالات تلك الإجابة النابهة أن تلك ( الفكرة ) العلمية التي سيطرت على " فاراداي " في تحويل ( الطاقة المغناطيسية ) إلى ( طاقة كهربائية ) لينجح بعد عشرات من التجارب في تحقيق اكتشافه الذي كان بمثابة المولود القابل للنمو والنضج ليصبح فيما بعد فعالاً ومؤثرًا وقادرًا على تحقيق المنافع ، وذلك بالفعل هو ما حدث لهذا الاكتشاف فقد تمخض عنه ( المولد الكهربائي ) الذي أصبح عماد الحياة المعاصرة في جميع مناحيها ، وطبع ببصمته عناصر الإنتاج والرفاهية والتقدم .

بطبيعة الحال يمكن للفكرة أن تكبر وتنمو لتتحول إلى سرطان خبيث وشر مستطير ، كما هو الحال مع البشر حيث ينتج من بين مواليدهم الأفاقون والمجرمون والأشرار ، وتاريخ البشرية قديمه وحديثه مليء بتلك الصور المقززة والسلوكيات المدمرة ، وفي نهاية المطاف قد نجد أنفسنا ، في ضوء تساؤل " فاراداي " نعيد النظر في حال البيئات التي كبرت فيها تلك الشرور القبيحة ، ونمت فيها تلك العناصر الفتاكة ؛ فالطفل حديث الولادة لا يملك من أمره شيئًا ولكن ما يحيط به من تفاعلات وتراكمات هي التي تغذي وتوجه وتتحكم في النتيجة النهائية ، وهي التي تحدد مدى الفائدة أو الضرر اللذين يمكن أن يتحققا من ذلك المولود سواءً كان ( فكرة ) على الصعيد الفكري ، أو ( فردًا ) على الصعيد البشري . ليست المشكلة فقط فيما يمكن أن ينتج عن ( المولود – الفكرة ) من خير أو شر عند نموه واكتمال بنيته ، ولكن المشكلة أبعد من ذلك وأعمق ؛ فكثير من المجتمعات قد تولد فيها أفكار قيمة ذات أبعاد حيوية ، ولكنها سرعان ما تندثر لغياب ( البيئة المناسبة ) القادرة على حضانتها ورعايتها ووقايتها وتنميتها وتأمين طرق المعالجة السديدة ، فالحال عندها تمامًا كحال مواليد كثر لم يهنأوا بعد بأيامهم الأولى قبل أن يداهمهم الوباء أو الطاعون ، وتقضي عليهم جراثيم أمراض مستعصية .

الأفكار تعقم وتتوالد وتسافر وتعود وتموت وتحيا ، ولذا لا عجب أن تكثر الأفكار الواعدة في بيئة ما ولكنها سرعان ما تهرب إلى بيئات أكثر قدرة على رعايتها وتطويرها وتفعيلها ، وهذا ما حدث عبر التاريخ الإسلامي حيث نشأت قدرات علمية في مجالات متنوعة من العلوم والرياضيات والتطبيقات ، ولكنها لم تحظ بتلك التربة الخصبة القابلة لاستيعابها واحتضانها وتطويرها ، فكان لدينا عبر التاريخ ( علماء أفذاذ ) ولكن لم تكن لدينا ( حركة علمية ) تجند طاقاتها ، وتجمع فلولها ، وتعزز تراكماتها ، وتؤسس قواعدها ، وتطلق معطياتها ؛ فكانت النتيجة الحتمية أن برزت ( الحركة علمية ) وترعرعت في أحضان أوروبا ، وتأسس ( المنهج العلمي ) وتفوق في تفاعلات ( العلم الغربي ) ومضامين فكره .

من المهم أيضًا أن يدرك ( صاحب الفكرة ) الطريقة الأنجح للتعامل معها وتفعيلها والاستفادة منها ، فتلك الفكرة التي هيمنت على " فاراداي " في قناعته بأن المغناطيسية هي الوجه الآخر للكهرباء دفعت به إلى توظيف طرائق المنهج العلمي وحشد طاقته وعلمه وإمكاناته في جهود لدراسة تحويل " الطاقة المغناطيسية " إلى طاقة كهربائية " ولا شك أن من حسن حظ البشرية أن " فاراداي " لم يكن شاعرًا ولا أديبًا ولا روائيًا ، وإلا لتوقف عند المظهر الوصفي لتلك الفكرة ، ولأنشد فيها قصائد عصماء ، وكتب فيها أجود أنواع السجع ، ووظف لها أبدع المحسنات اللفظية ، ثم لغرق بوجدانه وكيانه في بحور تلك الجماليات اللغوية والتركيبات اللفظية والانفعالات اللحظية لتهرب به في كل اتجاه سوى اتجاه اختبار ( الفكرة ) ، والصبر على مشكلاتها ، والمثابرة في توظيف جهده لسبر أغوارها .

من بدهيات الأمور أن ( المولود الجديد ) يحظى بالحنان والعطف والحب ، وكذلك ( الفكرة ) ولكن ذلك الحنان ينبغي أن لا يحول دون رؤية مستقبل هذا المولود ، والاهتمام بشأنه الحياتي والعملي ، ولذا فمن علامات الحب إدراك قدراته ومواهبه ، وتحديد نقاط ضعفه ومواطن قوته ، حتى إذا ما شب عن الطوق تمكن من التعامل مع كل جانب من جوانب شخصيته بأقصى فاعلية ممكنة ، وكذلك ( الفكرة ) لها بالضرورة سلبياتها وإيجابياتها ، وميزاتها وإعاقاتها ، وإذا لم يفلح ( صاحب الفكرة ) في التعرف على تلك الجوانب ليستفيد منها في تقليص الأضرار وتحسين العطاء وتعزيز الإيجابيات ، فقد يجد أنه جنى على ( الفكرة ) وقدم لمجتمعه جنينًا مشوهًا ، وصنع خللاً مشينًا ، وأنتج مضمونًا غثًا .
كتبته من ... جريدة المدينة .. الثلاثاء 16 -12 – 1428 هـ العدد ( 16316) السنة الثالثة والسبعون .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق