الأربعاء، 23 سبتمبر 2009

المدينة في العهد العباسي

تم نقل جميع المعلومات هنا من موقع مركز المدينة للبحوث والدراسات وذلك لكونه مرجعًا في كل ما يخص المدينة من دراسات ولتطمين الزائر الكريم بصحة المعلومة التي يقرؤها ، فجزى الله القائمين عليه خير الجزاء .

المدينة في العهد العباسي ((132 ـ 656 هـ))
يمتد العهد العباسي من تسلم العباسيين الخلافة سنة 132 هـ إلى سقوط بغداد بيد التتار سنة 656 هـ. غير أن الخلافة العباسية مرت في هذه المدة بمراحل مختلفة، كانت في بعضها قوية تحكم المناطق التابعة لها، وفي بعضها الآخر ضعيفة تنافسها دول وإمارات انشقت عنها. وقد مرت المدينة المنورة بهذه المراحل وتأثرت الحياة فيها بقوة الخلافة العباسية وضعفها، وانسلخت في بعضها عنها وتبعت الفاطميين ثم تبعت من بعدهم الأيوبيين. لذلك ينقسم تاريخ المدينة المنورة في هذا العهد العباسي الطويل إلى ثلاث مراحل هي: الأولى: مرحلة الارتباط بالعباسيين، الثانية: مرحلة الارتباط بالفاطميين، الثالثة: مرحلة التبعية الاسمية للعباسيين.


مرحلة الارتباط بالخلافة العباسية ( 132 - 363 هـ)    
تمتد هذه المرحلة من 132 هـ إلى 363 هـ عاشت المدينة المنورة خلالها فترات متعاقبة من الهدوء والاضطراب السياسي، ومن الأمن والاستقرار، والخوف والقلاقل، ومن ازدهار الحركة العلمية وإقبال طلاب العلم عليها من كل مكان، وتقلص تلك الحركة واقتصارها على أعداد قليلة من العلماء المقيمين أو المجاورين لمدة محدودة. وكان العامل المؤثر في ذلك هو قوة الخلافة ورجالها، ومن ثم قوة من يتولى إمارة المدينة وحكمته.وفي بداية هذه المرحلة كانت المدينة مركزاً نشطاً للحركة العلمية يعيش فيها أعلام الحديث والفقه في مقدمتهم الإمام مالك بن أنس وابن هرمز والقاسم بن إسحاق وعلي بن زيد ومحمد بن عبد الله بن عمر ومحمد بن عمر بن حفص. فضلاً عن تلاميذ الإمام مالك النابهين طلاب العلم الذين يقصدونه من الآفاق البعيدة كالشافعي.. وكانت الحياة الاقتصادية مستقرة على ماوصلت إليه في نهاية العهد الأموي، تعتمد على الزراعة في المقام الأول. أما الحياة السياسية فقد تولى  داود بن علي إمارة المدينة لعدة شهور قتل فيها عدداً من الأمويين الذين لم يخرجوا من المدينة وصادر قصورهم  وأموالهم، وتوقف الازدهار العمراني الذي نشط من قبل وبدأت مرحلة تقلص تدريجي وخاصة في حي العقيق الترف. ثم تعاقب على المدينة ثلاثة أمراء هم زياد بن عبد الله الحارثي ومحمد بن خالد القسري ورياح بن عثمان المري وكان همهم الأول منع تـفجر ثورة كان يعد لها محمد بن عبد الله بن الحسن الملقب بالنفس الزكية وأخوه إبراهيم. وكان محمد بن عبد الله هذا يرى أنه أحق بالخلافة فقد بويع سراً أواخر العهد الأموي وكان من المبايعين الخليفتان العباسيان الأولان أبو العباس السفاح وأبو جعفر المنصور. وقد نجحت سياسة أبو العباس في موادعة الأسرة الهاشمية في المدينة وخاصة عبد الله بن الحسن والد محمد و إبراهيم في منع الثورة. وعندما تولى المنصور الخلافة تغيرت المعاملة واعتمدت على المكر والشدة وقبض على عبد الله بن الحسن وعدد من الهاشميين وسجنوا ثم نقلوا إلى العراق وقتل معظمهم هناك، فانفجرت ثورة محمد بن عبد الله وأتباعه في رجب سنة 145 هـ وخلع الثائرون بيعة العباسيين وبايعوا محمد بن عبد الله بن الحسن خليفة عليهم.. استمرت هذه الثورة قرابة شهرين ونصف ولكن محمد بن عبد الله بن الحسن ورجاله لم يستطيعوا أن يمدوا ثورتهم أبعد من الحرمين، وأرسل المنصور جيشاً بقيادة ابن أخيه عيسى بن موسى لإنهاء الثورة، فأعاد الثائرون حفر الخندق وتحصنوا به ولكن الجيش العباسي اقتحم الخندق وأنهى الثورة وقتل معظم المقاتلين فيها. فكانت الوقعة ثاني ملحمة تمر بها المدينة بعد وقعة الحرة غير أنها اقتصرت في هذه المرة على المقاتلين من رجال الثورة. تبع ذلك اضطراب آخر نشب أواخر شهر ذي الحجة بسبب تعديات بعض الجنود الذين قدموا مع الجيش العباسي، قام به مجموعة من موالي المدينة السود انتقموا فيه من الجنود وأخرجوا أمير المدينة عبد الله بن الربيع الحارثي، واستطاع بعض العقلاء من أهل المدينة في مقدمتهم أبو بكر بن أبي سبرة ـ وكان مسجوناً لتأييده ثورة محمد النفس الزكية ـ أن يخمدوا الثورة بالتفاوض مع قادتها، وعاد الأمير إلى المدينة ثم عزله الخليفة لعدم كفاءته الإدارية، وعادت المدينة إلى سكينتها وحياتها اليومية المعتادة، الموزعة بين العمل في الزراعة والتجارة وبعض الحرف وحلقات العلم المزدهرة في المسجد النبوي وبيوت العلماء، في مقدمتهم الإمام مالك بن أنس وعبد الملك بن جريج وجعفر بن محمد وغيرهم كثير وتوافد طلاب العلم من الآفاق للتتلمذ عليهم مدة من الزمن. وازداد الاعتماد على الزراعة بسبب توقف وصول القمح من مصر وعمت المدينة حياة الطمأنينة بعد أن أطلق المنصور سراح المعتقلين الثائرين جميعهم وعين أميراً طالبياً عليها هو الحسن بن زيد استمرت إمارته خمس سنوات ثم أعقبه عم الخليفة عبد الصمد بن علي.
وفي عام 156 هـ شهدت المدينة سيولاً ضخمة هددت القسم الجنوبي منها وكادت تجتاح المسجد النبوي، ولكن عجوزاً دلت الناس على نفق مغطى، وعندما فتح مدخله تدفقت فيه المياه إلى وادي بطحان. لقيت المدينة عناية أكبر في عهد الخليفة المهدي ومن بعده هارون الرشيد فقد زار المهدي المدينة سنة 160 هـ وأكرم أهلها وجلس إلى الإمام مالك وتزوج إحدى حفيدات عثمان بن عفان واصطحب معه في عودته خمسمائة من رجالها ليكونوا في حاشيته ببغداد وأعاد قوافل القمح المصرية، وأمر بتوسعة المسجد النبوي فأضيفت إليه أرض مجاورة وأعيد بناء قسم كبير منه وزينت جدرانه وأعمدته بالرخام والفسيفساء. كما نظمت خدمات بريدية عامة لأهل المدينة تنقل رسائلهم إلى العراق واليمن وما فيهما.. وفي عام 169 هـ قام أحد الهاشميين هو الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب بحركة تمرد متعجلة ومحدودة، بسبب شدة أمير المدينة على بعض الهاشميين وطلب البيعة لنفسه، ولكن أهل المدينة لم يناصروه لسوء تصرفه ومقاتلته رجال الإمارة قرب المسجد النبوي فخرج منها بعد أحد عشر يوماً إلى مكة وانتهت ثورته بمقتله في معركة (فخ) قربها. وعادت السكينة إلى المدينة المنورة. وقد استمرت العناية بها في عهد هارون الرشيد وتوالى عليها الأمراء وزارها الرشيد وأبناؤه عدة مرات وأكرموا أهلها. وعندما اشتعلت الفتنة بين الأمين والمأمون في بغداد انحاز أمير المدينة إلى المأمون فتواصلت السكينة والطمأنينة فيها إلى نهاية القرن الهجري الثاني، حيث تأثرت بفتنتين هما : فتنة أبي السرايا ـ وفتنة محمد بن جعفر. أما أبو السرايا فقد ثار على الخليفة المأمون ودعا إلى بيعة رجل هاشمي هو ابن طباطبا وأرسل رجاله للاستيلاء على الأمصار، فأرسل إلى المدينة (محمد بن سليمان الطالبي) أميراً عليها. وخرج منها الأمير العباسي وكانت سيرة محمد بن سليمان حسنة مع أهل المدينة، ولكن إمارته لم تطل فقد انتهت ثورة أبي السرايا وعاد العباسيون إلى المدينة فخرج منها محمد بن سليمان ورجاله سلماً. وأما محمد بن جعفر فقد دعا لنفسه بالخلافة في مكة ثم توجه إلى المدينة وهاجمها عدة مراتٍ فتصدى له أهلها بقيادة أميرها العباسي هارون بن المسيب، وردوه عنها. وخسر أهل المدينة عدداً من الرجال. بعد ذلك نعمت المدينة بالاستقرار طوال العقدين الأولين من القرن الثالث. ومنذ بداية العقد الثالث ضعفت الإدارة وبدأت تظهر مشكلة الأعراب الذين يهددون الطرق حولها، ويتجرأ بعضهم فيصل إلى بيوتها وأسواقها، وبدأ تمرد قبائل بني سليم وظهرت آثاره في تهديد الأمن في المدينة وجاءت قوة من بغداد عام 230 هـ بقيادة حماد بن جرير الطبري فضبطت الأمن، وجهز أمير المدينة حملة من أهلها مع القوة الوافدة لتأديب قبائل بني سليم. ولكنها فشلت وقتل كثير من رجالها. فأرسل الخليفة الواثق جيشاً كبيراً بقيادة (بغا الكبير) لتطهير المنطقة من المفسدين وصارت المدينة مركزاً لتحرك الجيش وسجن فيها أكثر من ألف منهم، وقد حاول بعضهم الفرار من السجن وقتلوا بعض الحراس وخرجوا إلى الشوارع، لكن أهل المدينة تصدوا لهم وقضوا على زعمائهم وأعادوا الباقين إلى السجن تمهيداً لسوقهم إلى بغداد. تخلصت المدينة من  تهديد المفسدين، ومن بعض الأعراب عدة سنوات بعد هذه الحملة التطهيرية. ولكنها بدأت تتقلص عمرانياً وتجمعت المساكن قرب المسجد النبوي وضاقت الأزقة فيها وهجرت معظم المناطق البعيدة أو أصبحت أشبه بتجمعات سكنية مستقلة مثل منطقة قباء والعوالي والقبلتين، وبدأت المدينة تتأثر بالضعف العام الذي أصاب الخلافة العباسية بعد منتصف القرن الثالث الهجري. وكادت تتعرض لمحنة شديدة عام 251 هـ عندما هاجمها أحد الخارجين على الخلافة العباسية هو إسماعيل بن يوسف.. من أحفاد الحسن بن علي والملقب بالسفاك. وكان قد نشأ بين الأعراب واتصف بالشدة والجفاء، استولى على مكة وقتل الكثيرين فلقب بالسفاك ثم توجه إلى المدينة، ولم يكن الأمير ورجاله قادرين على مواجهته فخرجوا وتصدوا له وثبتوا لحصاره وتحملوا المجاعة ومات عدد منهم بسببها، حتى انصرف عنها عندما علم بقدوم نجدة من بغداد.. فكان موقفهم بطولة شعبية نادرة على إثر ذلك قام أمير المدينة إسحاق بن محمد بن يوسف  ببناء أول سور للمدينة يحيط بالكتلة العمرانية حول المسجد النبوي. وبسبب ضعف السلطة المركزية في بغداد وانشغالها بالفتن المتوالية قام صراع بين فريقين من الأسرة الهاشمية لتسلم إمارة المدينة فريق من الحسينيين وبعض الحسنيين، وفريق من الجعفريين وتسلم الجعفريون الإمارة لبعض الوقت، ثم انتزعها منهم الحسينيون عام 266 هـ. حيث جاء محمد بن أبي الساج وتسلم السلطة منهم وعين الحارث بن سعد على إدارتها، فضبط الأمن وقبض على عدد من المفسدين. وتفجر الصراع مرة ثانية عام 269 هـ ثم ظهر بعض الطالبيين المنحرفين، وهم أفراد قلائل من الأسرة الهاشمية الكريمة ساءت نشأتهم وشذوا عن أخلاق هذه الأسرة وعاشوا بين الأعراب أو مع المفسدين وصاروا مثلهم، لا يحملون شيئاً من العلوم التي اشتهر بها الهاشميون ولا من شيمهم، وقد أقلق هؤلاء المنحرفون أهل المدينة عدة مرات وقتلوا ونهبوا وآذوا الناس وكان منهم محمد وعلي ابنا الحسين بن جعفر الحسيني فقد أغارا على المدينة مع رجالهما عام 271 هـ. وقتلوا عدداً من الهاشميين وغيرهم ونهبوا الأموال ثم غادروها. وقبل نهاية العام وصل جيش عباسي بقيادة أحمد بن محمد الطائي استطاع أن يثبت الأمن في المنطقة فعادت السكينة إلى المدينة وصارت واحة للأمن وسط  الاضطرابات الكثيرة في المناطق الأخرى وازدهرت فيها حلقات العلم ثانية وكثر الوافدون من طلاب العلم والمجاورين الذين يقيمون فيها مدة من الزمن، وبعضهم يؤثر أن يقضي بقية عمره في رحابها أملاً في أن يحظى بمثوى في مقبرة البقيع. وخلال العقود الستة من القرن الرابع الهجري، وقبل أن تدخل المدينة تحت النفوذ الفاطمي استمرت الحياة هادئة في الغالب يقضيها الناس في شؤونهم اليومية، بين العمل في الزراعة والتجارة وبعض الحرف والخدمات، وبين الصلوات في المسجد النبوي وحضور حلقات العلم فيها ولقاء الوافدين من علماء المسلمين من أقطار العالم الإسلامي. ولم يعكر هذا الصفو إلا اضطرابات طارئة يسقط ضحيتها بعض المتصارعين على السلطة وأتباعهم ثم تنتهي الأزمة بسيطرة أحد الفريقين المتصارعين وانسحاب الآخر فقد تجددت الصدامات بين الحسينيين ـ ومن معهم من الحسنيين ـ والجعفريين عام 348 هـ ووقع عدد من الضحايا وأرسل الفاطميون من المغرب من يصلح بين الفريقين ويتحمل ديات القتلى ثم خرج الجعفريون من المدينة إلى بعض القرى، ومنها إلى صعيد مصر وخلت إمارة المدينة للحسينيين. كما أن الإخشيديين الذين استولوا على مصر وثبتوا حكمهم فيها عام 330 هـ. مدوا نفوذهم الاسمي إلى المدينة، فقد أقر الخليفة العباسي الإخشيد (محمد بن طغج) على ولاية مصر وضم إليه الحجاز، ولكن سلطته كانت اسمية فقط لا تتعدى ذكر اسمه على المنبر والدعاء له بعد الخليفة العباسي. وقد فرح الإخشيديون بذلك وخاصة كافور الإخشيدي وأرسلوا الأموال والأعطيات لتوزع في الحرمين الشريفين. وظل هذا الولاء الاسمي حتى عام 357 هـ حيث قطع ذكرهم لانتهاء دولتهم في مصر واقتصر الدعاء بعدها على ذكر الخليفة العباسي ثم أمير المدينة الحسيني إلى أن دخلت المدينة تحت نفوذ الفاطميين سنة 363 هـ.
مرحلة الارتباط بالفاطميين (( 363 هـ ـ 463 هـ ))
كانت المدينة في النصف الأول من القرن الرابع الهجري صغيرة وضعيفة وهدفاً لغزو الأعراب وعندما اشتد أمر دولة الفاطميين في مصر أعلن أمير المدينة، وأمير مكة، الولاء للفاطميين عام 363هـ، وذلك بسبب الروابط المتينة بينهم (التشيع)، ولموقف سابق للفاطميين أصلحوا فيه بين الهاشميين المتنازعين في الحجاز (بنو الحسن والحسين من جهة وبنو جعفر من جهة أخرى) وفرح الخليفة الفاطمي المعز لدين الله بهذا الولاء وأرسل الأموال والهدايا. وكانت العلاقة بين أمراء المدينة والفاطميين مضطربة، فأحياناً كانت لا تتعدى الولاء الاسمي، ولذا كانت تتحول إلى العباسييين بين الفترة والأخرى، وذلك لعدم اهتمام الفاطميين بحاجات أهل المدينة، وضعف الإدارة، كما أن حكام مكة المتمردين على الدولة الفاطمية ضموا إليهم المدينة مدة تمردهم.ففي عام 365هـ لم يهتم الخليفة الفاطمي العزيز بالله باحتياجات المدينة فخلع أميرها الولاء وتحول إلى العباسيين، فأرسل العزيز بالله جيشاً هدد المدينة عام 367هـ فأعاد أميرها الولاء للفاطميين ولكنه خلعه بعد سنة واحدة وأعاده للعباسيين الذين أرسلوا أموالاً جزيلة لبناء سور قوي حول المدينة وتحسين أحوال أهلها، ولم يعد الولاء للفاطميين حتى عام 380هـ، عندما وصلت حملة عسكرية فاطمية حاصرت المدينة، فآثر أميرها طاهر بن مسلم (مؤسس حكم آل مهنا) السلامة، فخطب للفاطميين في المسجد النبوي فامتد حكم آل مهنا لها وهم في ولائهم الاسمي للفاطميين، ولم يتأثر أهلها بالدعوة الفاطمية، وعقائدها بسبب تراثهم العريق من السنة النبوية والعلماء الذين كانوا يدرسونه في المسجد النبوي، وغضب الفاطميون لذلك وأوعز الحاكم بأمر الله الفاطمي لأمير مكة أبو الفتوح بالاستيلاء على المدينة وطرد آل المهنا منها واتساع المجال للدعاة الفاطميين كي يؤثروا في أهل المدينة. فاستولى أمير مكة أبو الفتوح عليها وأخرج آل المهنا منها لبعض الوقت ثم أعادهم إليها وجعلها تابعة لإمارته.
أهم الأحداث في العهد الفاطمي
عانت المدينة من الاضطرابات التي ظهرت في الدولة الفاطمية وخاصة في عهد الحاكم بأمر الله الفاطمي، فقد أمر جنوده بنقل جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصر ولكن الله سبحانه وتعالى حماه، إذ هبت ريح شديدة وأظلم الجو وخاف الجنود الفاطميون وتراجعوا عما هموا به. وأمرهم في مرة ثانية بنقل محتويات بيت جعفر الصادق فنقلوها إلى مصر. وعندما تولى شكر بن أبي الفتوح إمارة مكة عام 436هـ هاجم المدينة وطرد آل المهنا منها وعين بعض الحسينيين عليها وظلوا عليها حتى عام 463هـ حيث أعادهم أمير مكة أيضاً محمد بن جعفر، الذي خلع ولاء الفاطميين وخطب للعباسيين وعين الحسين بن المهنا أميراً على المدينة. كما عانت من القحط و انقطاع الميرة عدة سنواتٍ بسبب غضب الفاطميين، وضعف السلطة في بعض السنوات واستغل ذلك الأعراب وقطاع الطرق وهاجموا المدينة أو القوافل القادمة إليها. وبهذا التاريخ انتهت تبعية المدينة للفاطميين وعادت للخلافة العباسية، ولكن الفاطميين ظلوا حتى نهاية دولتهم سنة 567 هـ يتوددون إلى أمراء المدينة ويرسلون بعض الأموال والهدايا أحياناً أملاً في أن يعود الولاء إليهم. وثمة رواية تقول أن الحافظ بالله حاول أيضاً نقل جسد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مصر وأرسل أربعين رجلاً من الأشداء، بدأوا بحفر نفق عميق، ويروى أن النفق انهار عليهم ودفنهم أو أنهم اكتشفوا وضربت أعناقهم. لم يترك الفاطميون آثاراً تذكر في المدينة، باستثناء تشيع أعداد قليلة من أهلها أو المقيمين فيها، ولا نجد آثاراً فكرية أو مؤلفات تدعو لهم كما لانجد آثاراً عمرانية أو حضارية تظهر عنايتهم بالمدينة أو بمسجدها النبوي، رغم أن الفاطميين تركوا آثاراً كثيرة في مصر أهمها الجامع الأزهر ومساجد أخرى كثيرة.
مرحلة الارتباط بالأيوبيين (( 564 ـ 652هـ ))
عاشت المدينة المنورة مدة طويلة من العهد الأيوبي في طمأنينة وسعة فقد اهتم بها الأيوبيون منذ أن كانوا يحاربون لإقامة دولتهم أو توسيعها. وكان أول من اهتم بها نور الدين زنكي الذي عني بطرق الحج ووزع أموالاً جزيلة على القبائل المقيمة قربه كي تؤمن المسافرين والقوافل وأرسل أموالاً وافرة إلى المدينة لإصلاح موارد المياه والطرق الداخلية وعندما زار المدينة سنة 557هـ ناشده بعض أهلها أن يبني سوراً جديداً يستوعب الامتداد العمراني الذي ظهر خارج السور القديم فاستجاب لهم وأرسل الأموال اللازمة وبنى سوراً جديداً كبيراً حفظ أهل المدينة من الغارات، وينسب إليه أيضاً أنه أمر بإقامة جدار من الرصاص حول القبور الشريفة في المسجد النبوي بعد أن اكتشف محاولة بعض النصارى المتسترين حفر نفق إليها لسرقة جسد الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك بإيعاز من بعض ملوك الصليبيين. وقد أحسن أمراء المدينة وهم من آل المهنا ولاسيما القاسم بن مهنا إقامة الروابط مع الأيوبيين ومع الخلافة العباسية، وكان مقرباً إلى صلاح الدين الأيوبي الذي عني بالحرمين الشريفين وأرسل الأموال الجزيلة إلى أميرها مقابل إسقاط الضرائب عن الحجاج كما أرسل الأموال إلى القبائل لحماية القوافل والحجاج رغم انشغاله بالحروب الصليبية وحاجته الماسة إلى المال لإنفاقه عليها. ومن مآثر صلاح الدين الأيوبي في المدينة أنه خصص الخدم للمسجد النبوي وجعل لهم أوقافاً في مصر لدفع رواتبهم، وكان هذا بداية لنظام الأغوات والذي استمر بعد ذلك إلى عصرنا الحاضر.
المدينة والصليبيون
في ذروة الحروب الصليبية، وخلال عهد صلاح الدين الأيوبي قام أحد ملوك الصليبين (أرناط) بمحاولة لغزو المدينة، وكان أرناط شديد العداوة للمسلمين، وأغار على قوافل الحجاج ونهبها وفتك بالمسلمين، ثم عقد صلحاً مع الأيوبيين وتعهد بعدم الاعتداء على الحجاج، ولكنه أضمر الغدر فجهز حملة صليبية أنزلها في البحر الأحمر، فهاجمت إيلة وينبع وقتلت وأسرت ونهبت وأحرقت، ثم نزلت في ينبع وانتهت إلى الجبال، وعلم صلاح الدين بالأمر فأوعز إلى نائبه في مصر بتجهيز حملة لمطاردتهم في البحر والبر وقاد حسام الدين لؤلؤ الحملة، ولحق بالغزاة في الحجاز فهربوا إلى المرتفعات، فتبعهم وأدركهم على مسافة ليلة واحدة من المدينة وقتل بعضهم وأسر الباقين. فوزعهم صلاح الدين على الأمصار لتضرب أعناقهم فيها وما لبث أن تمكن من أسر أرناط في موقعة حطين وقتله بيده، وسلم الله المدينة من غزوة صليبية حاقدة. ظلت المدينة المنورة مرتبطة بالأيوبيين إلى نهاية عهدهم ولم يتدخل الأيوبيون في شؤون المدينة الداخلية، وتركوا لأمرائها إدارة شؤونهم المحلية، وكانوا يرسلون إليهم الأموال والهدايا، وبعد وفاة صلاح الدين ارتبطت بأولاده الذين حكموا مصر غالباً، ولكنها تأثرت بالصراع الذي قام بين الأمراء المحليين في مكة والمدينة، والصراع الذي قام بين الأيوبيين والرسوليين في اليمن، ولم يكن للمدينة قوة خارجية تعزز جنودها القليلين، لذلك تعرضت لهجوم بعض القبائل أثناء غياب أميرها سالم بن قاسم بن مهنا أواخر القرن السادس لبعض الوقت، كما طمع فيها أمير مكة قتادة بن إدريس وهاجمها فقاومه أهلها بقيادة أميرهم سالم، ومالبثوا أن ردوا عليه عدوانه فحاصروه في مكة ثم تركوه، وحاول قتادة القبض على أمير المدينة في موسم الحج فاستعدى عليه الملك العادل بن صلاح الدين الأيوبي ملك دمشق فأرسل حملة ضربت قواده في وادي الصفراء، وتوفي أمير المدينة قبل المعركة وخلفه ابن أخيه القاسم بن جماز فاهتم بتعزيز القوة العسكرية للمدينة، وأسس جيشاً صغيراً قوياً وعاقب بعض القبائل التي هددت المدينة والطريق إليها، كما هدد قتادة ومنعه من أن يهاجم المدينة ثانية، ومرت بالمدينة سنوات من الطمأنينة والأمن ونشطت الحركة العلمية في المسجد النبوي والحركة الاقتصادية، ولكن أمير المدينة تورط في الصراع القائم في مكة بين أميرها الذي عينه الأيوبيون وأحد أبناء قتادة وقاد جيشاً لنصرة قتادة فخسر المعركة وخسر حياته. وتولى بعده إمارة المدينة شيحة بن هاشم الذي أعاد العلاقة الطيبة مع الأيوبين وساعدهم بقوة من أهل المدينة ضد خصومهم أتباع الدولة الرسولية في اليمن الذين استولوا على مكة وعاشت المدينة في عهده فترة هدوء وطمأنينة في غالب الأوقات ولكن الطريق إليها لم يسلم من بعض تهديدات الأعراب الذين قتلوا أمير المدينة شيحة وهو في طريقه إلى بغداد. وظلت المدينة موالية للأيوبيين في مصر حتى انتقلت منهم إلى المماليك فنقلوا ولاءهم إليهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق